الدرس الثامن و الاربعون
الإجتهاد و التقلید
الإجتهاد من حیث اللغة بمعنی السعی و الجهد، وفی مصطلح فقهاء الإمامیة عبارة عن: استفراغ الوسع فی استنباط و فهم الوظائف و الموضوعات و الأحکام الشرعیة من المصادر و الأدلة الشرعیة المعتبرة، کالقرآن الکریم و أحادیث النبی أی المنقول من أقواله و أفعاله و تقاریره، و أحادیث و سیرة الأئمة المعصومین علیهم السلام، و العقل، و القواعد الکلیة و الاصول العملیّة التی ثبتت حجیتها بالأدلة الشرعیة.
و علی هذا الاساس یجب أن لا نعدّ «الإجتهاد» أحد المصادر للأحکام الشرعیة، بل هو وسیلة للإستفادة الصحیحة و الکاملة من مصادر الفقه الإسلامی لا غیر.
و نحن هنا نبحث فی ثلاثة مواضیع باختصار:
(المطلب الأول): ضرورة الإجتهاد ـ إن المسلمین مکلّفون بأن یتعلّموا الوظائف و الأحکام الدینیة و یعملوا وفقها .. ولقد کان المسلمون فی عهد رسول الله صلّی الله علیه و آله یسألون عن وظائفهم إما بصورة مباشرة من النبی(ص) و إما أنهم کانوا یسألون عنها الذین سمعوا من رسول الله صلّی الله علیه و آله، و لهذا لم یکونوا یواجهون مشکلة فی هذا المجال غالباً.
و بعد رسول الله صلّی الله علیه و آله، کان فی مقدور المسلمین ایضا أن یسألوا مسائلهم من أهل البیت المعصومین علیهم السلام الذین اختیروا وعینوا لهذا الغرض من قبل النبی صلّی الله علیه و آله.
و کان أوّل هؤلاء الائمة هو الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام، و آخرهم هو الامام الثانی عشر الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشریف.
ولقد ظلّ الشیعة الإمامیة و التابعون لأهل البیت علیهم السلام یتلقّون مسائلهم الشرعیة و حتی عام 255 هجریة، و بعده إلی نهایة عصر الغیبة الصغری من هذا الطریق .. ثم بعد ذلک انقطع هذا الارتباط المباشر .. ولکن المسلمین بقوا محتاجین إلی تعلّم مسائلهم الشرعیة، و کانوا مضطرین فی هذا المجال إلی أن یرجعوا إلی رواة الأحادیث و نقلة الأخبار، غیر أنه کان هناک ثلاث مشاکل:
المشکلة الاولی: انّ المسائل المستحدثة و احتیاجات المسلمین الفقهیة المتجدّدة کانت فی توسّع مستمر، ولم یکن من الممکن أخذ جزئیات المسائل الفقهیّة و الوظائف الدینیة من الأحادیث و الروایات بصورةٍ مباشرةٍ، لأنّ الأحادیث المأثورة کلیّة غالباً، و قلما تتضمن التفاصیل و الجزئیات.
المشکلة الثانیة: هی أنّ جمیع تلک الأحادیث لم تکن معتبرة، کما أن جمیع رواتها لم یکونوا ثقاة یعتمد علیهم، لأنه کان فیهم الکذّاب و الوضّاع، و المجهول الحال، کذلک.
المشکلة الثالثة: انّ بین الآیات القرآنیة و الأحادیث ناسخاً و منسوخاً، عامّاً و خاصاً، مطلقاً و مقیداً، و ربما کان هناک المتعارضان، و لهذا لم یکن جمیع الأفراد قادرین علی إستنباط الأحکام الشرعیّة منها.
بناءً علی هذا یجب أن یکون بین المسلمین من یتصدّی لمسؤولیة إستنباط الأحکام الشرعیة و یتخصص فی هذا المجال عن طریق اکتساب العلوم و المعارف اللازمة، لینهضوا باحتیاجات المسلمین الفقهیّة.
و هؤلاء یدعون: الفقهاء المجتهدون .. ولقد أراد هه هو الآخر هذا الأمر من المسلمین إذ قال: (وَ مَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافّةً . فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ کُلِِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقّهُوا ْ فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا ْ إِلَیْهِِمْ لَعَلّهُمْ یَحْذَرُونَ).(1)
ان التفقه أعلی من التعلم وهو بمعنی التخصص فی أحکام الشریعة. قال الراغب: و تفقّه إذا طلبه فتخصّص به، قال: لیتفقّهوا فی الدین.(2)
(المطلب الثانی): شرائط الاجتهاد ـ إن الاجتهاد عمل صعب و شاقّ، و إن المجتهد ذو مسؤولیة ثقیلة، و لهذا فإن الاجتهاد لا یتیسر لکلّ أحد.
إن الذین تتوفّر فیهم الشروط التالیة هم الذین یصلحون للتصدی لهذه المهمة الخطیرة و یحق لهم القیام بهذه المسؤولیة.
1ـ أن یکون متخصّصاً فی العلوم التی تتوقف علیها عملیة استنباط أحکام الشریعة مثل: اللغة، و آداب اللغة العربیة، و علم الدرایة و الروایة، وعلم الرجال و المعرفة الکاملة برواة الاحادیث، و بعلم التفسیر و الإطلاع علی الآیات القرآنیة و فهم معانیها الصحیحة، و المعرفة الکاملة باحادیث النبی و الائمة المعصومین صلوات الله علیهم أجمعین، و المعرفة بالفقه و بالکتب الفقهیة لدی سائر المذاهب الإسلامیة، وعلی الخصوص المذاهب السنّیة الأربعة، و التخصص فی علم الاصول، و الإحاطة بالمبانی المحکمة فی شتی مسائل علم الاصول، و المعدودة من اسس و قواعد الإجتهاد، و الإستنباط.
2ـ الإطلاع علی تقدّم العلوم و الصناعات و تکاملها المستمر و الصاعد، و المعرفة بمدی أثرها فی تغییر ظروف الحیاة الفردیة و البشریة، و الإلمام بالأوضاع و الظروف السیاسیة و الإجتماعیة المتطوّرة فی المجتمعات، و الإطلاع علی العلوم التی یمکن أن تکون مؤثرةً فی تشخیص الموضوعات الشرعیة و تحدید الأحکام المترتبة علیها، و العلم بمقتضیات الزمان و المکان، و بالمتطلبات الفقهیة الجدیدة.
إن مثل هؤلاء الأشخاص هم الذین لا یعجزون عن تلبیة الإحتیاجات، وحلّ مشاکل المسلمین مطلقاً.
قال الإمام الصادق علیه السلام: و العالم بزمانه لا تهجم علیه اللوابس.(3)
وعلی هذا الاساس إنما یکون الشخص مجتهداً وفقیهاً واقعیاً إذا تخصص فی جمیع العلوم التی تتوقف علیها عملیّة الإستنباط، و یکون عارفاً بالحوادث الواقعة و الوقائع العامة الجاریة فی العالم و بخاصة العالم الإسلامی، و یعرف بالأخص مدی تأثیرها فی الحیاة الفردیة و الإجتماعیة و السیاسیة و الثقافیة و الأقتصادیة و العلمیة للأمة الإسلامیة معرفة کاملة، و یجتهد إلی جانب ذلک و برؤیة فقهیّة واسعة فی تشخیص و تحدید الموضوعات الشرعیة و استنباط أحکام الشریعة، و استخراج و عرض الحلول المشروعة و المناسبة، و أن یقود المجتمع الإسلامی جنباً إلی جنب مع تقدم العلوم و الصناعات ومع رقی الحیاة الانسانیة.
إنّ مثل هذا الشخص هو الذی یمکن تسمیته بالمتخصص الإسلامیّ و بالمجتهد الواقعی، و إلا فان مواصلة البحث فی المسائل المطروحة بواسطة القدماء، أو تبدیلها بـ «الأقوی» و «الأحوط» او بالعکس علی الأکثر لیس عملاً مهماً.
إن إجتهاداً کهذا هو الذی یمکنه أن یقوم مقام الأمامة، و أن یبعث فی الامة الإسلامیة الحرکة المستمرة، و یضمن لها الإستقلال و العظمة.
إن الفقیه یمنع من الإنحراف والزیغ، و من الإفراط و التفریط، و من المداهنة و التطرف، کما یمنع من التأویلات المغلوطة، و التفسیرات الخاطئة التی یرتکبها المنتحلون و المبتدعون، و العابثون و المبطلون، و یحافظ علی الإسلام من مؤامرات أعدائه و خصومه، و یهدی الامة الإسلامیة الکبری إلی صراط الإسلام المستقیم.
إن المجتهد لا یتجاوز ـ فی اجتهاده ـ أبداً حدود المصادر و الأدلة الإسلامیة المعتبرة و لیس أهل القیاس و الإستحسان و الإفتاء بالرأی، بل هو یتعمّق فی مصادر الفقه الأسلامی بما له من الرؤیة الفقهیة العمیقة و بما عنده من سعة النظر فیستخرج منها الأجوبة المشروعة للمسائل المتجددة فی المجتمع الإسلامی باطراد، و یعرض الحلول الإسلامیة لمشکلات الامة. و بهذه الطریقة یثبت خلود الإسلام و تمشی قوانینه و احکامه مع التقدم و التطور عملیاً.
إن مثل هؤلاء الفقهاء یمکن اعتبارهم من المصادیق الواقعیة لحصون الإسلام التی جاء ذکرها فی الاحادیث.
قال علی بن أبی حمزة: سمعت أبا الحسن موسی بن جعفر علیه السلام یقول: اذا مات المؤمن بکت علیه الملائکة، و بقاع الأرض التی کان یعبد الله علیها و أبواب السماء التی کان یصعد فیها بأعماله، وثلم فی الإسلام ثلمةً لا یسدّها شیء، لأنّ المؤمنین الفقهاء حصون الإسلام کحصن سور المدینة لها.(4)
(المطلب الثالث) ـ جواز التقلید: حیث أنّ المجتهد یستنبط المسائل و الأحکام من المصادر الشرعیة المعتبرة، و یبذل فی هذا السبیل غایة الجهد، لهذا فان ما یستنبطه من الأحکام حجة معتبرة لنفسه، و یجب ان یعمل وفقها، کما أن علی غیره من المسلمین ان یأخذوا ما یحتاجون إلیه من الأحکام منه، و یعملوا وفقها، لأنه خیبیر متخصص فی إستنباط احکام الشرع، و الرجوع إلی الخبیر المتخصص أمر عقلائی.
فکما أن الناس یرجعون للحصول علی معلومات خاصة إلی المتخصص فی ذلک القسم، علیهم إن یرجعوا لتعلّم أحکام الدین إلی المجتهد الخبیر بأحکام الدین ایضاً.
إن رجوع الجاهل إلی العالم و المتخصص أمر عقلائی، و قضیّة إرتکازیة جبلت علیها النفوس ولا تحتاج إلی الاستدلال و البرهنة والی دلیل غیر هذا.
ولقد اشیر فی آیة النفر إلی هذا الموضوع بالذات .. فان المجتهد تفقّه فی الدین و تخصص فی معرفة المسائل و القضایا الإسلامیة حتی إذا رجع إلی قومه، أو راجعه الناس بیّن لهم أحکام الدین و معارفه، و قوانین الإسلام و مسائله، و بذلک ینذرهم و یبشرهم.
فکّروا و أجیبوا
1ـ عرّفوا الاجتهاد الإصطلاحی.
2ـ لماذا یحتاج المسلمون إلی الاجتهاد؟
3ـ بیّنوا شرائط الاجتهاد.
4ـ من هو المجتهد الواقعی؟
5ـ کیف یستخرج المجتهد الاجوبة المناسبة للمسائل الجدیدة؟
6ـ کیف یثبت المجتهد عملیاً خلود الأحکام الإسلامیة و دوامها؟
7ـ ما هو الدلیل علی جواز التقلید؟
1 ـ التوبة ـ 122.
2 ـ المفردات ص 384.
3 ـ الکافی ج 1 ص 26.
4 ـ الکافی ج 1 ص 38.