بسم الله الرحمن الرحیم
بدایَةُ أبْحاثِ النُبُوَّة
فی القِسم الأوَّل مِن هذا الکتاب قرأتم أنّ هذا الکون لم یُوجَد من لدن نفسِه، ولم یحدث بالصدفة و علی سبیل الإِتفاق، بل إنّ له خالقاً قادِراً، علیماً، حکیماً. هو الذی أوجده و خلقه، وهو الذی یدیرهُ و یدبّرُه، خلق العالم بقدرته و علمه، و أنشأه بارادته، و مشیئته، عن عنایة و حکمة، و أنه لا یصدر منه لغوٌ أو عَبَث قط.
وفی القِسم الثّانی من هذا الکتاب قرأتم أنّ خلق الإِنسان و العالم لیس عَبثاً ولا لغواً و أن الإِنسان لم یأتِ إلی هذه الدنیا لیعیش فترة قصیرة یأکل فیها، و یشرب، و یلهو و یلعب، و یستمتع بالملذّات، ویقضی وقته فی الشهوات، ثم یموت و یفنی، بل إن لله الحکیم هَدَفاً أسمی، و غایة أعلی وراء خَلْق الإنسان.. إنّه خَلَق الإِنسان لیربّی نفسَه ـ فی هذه الدنیا ـ بالإِیمان و العَمَل الصالحِ، و الأخلاق الحَسَنَة، وَ یَعمل علی تکمیلها، و تزکیتها و تهیئتها لحیاة (الآخرة) السعیدة، الجمیلة، الخالدة.
و علی هذا الأَساس فإنَّ الإِنسان لا یفنی بالموت، إنّما ینتقل ـ بعد الموت ـ من هذا العالم إلی عالمِ الآخرة، و هناک یشاهِدُ نتیجةَ أعمالِهِ کاملةًً.
الصالحون المحسنون ینالون ـ یومذاک ـ أجراً حَسَناً و کریماً، و یعیشون فی جَنة عدن، بنَفْس کاملة، نورانیّة، و یستمتعون بشتی ألوان النعَمِ الطیّبة التی یعطیها لهم ربّهم الرحیم.
و الطالحون المسیئون یلقونَ عِقابَ أعمالِهِم السَیِئة، بالکامِل.
إذن فَهذه الدُّنیا مَزرعة الآخرة، وهی المکانُ المناسبُ لبناءِ الذّات، وَ صیاغة النَفْس، و یجب أن تُهَیَّأ نِعَم الآخرة فی هذه الحیاة، و تضمَن السعادة الاُخرویة فی هذا العالم.
و هنا تنطرح الأسئله التالیة:
1ـ هل الإنسانُ بحاجة إلی برنامجٍ کاملٍ و شاملٍ من أجل سُلوک طریق السعادة و الکمال، و ضمان سعادتِه الدنیویةِ و الأخرویةِ، أم لا؟
2ـ هل الإِنسان قادرُ بنفسه علی أنْ یُهیّء و یدوّن مثل هذا البرنامج الکامل الشامل، و ان ینفّذُه فی الحیاة، أم أنه بحاجة إلی هدایةٍ مِن خالقِ هذا الکون، و مُنشیء هذا العالَم، لتهیئة و تدوینِ مثلِ هذا البرنامج؟
إنَّ الإِجابة علی السُؤال الأوّل واضحة، ولا تحتاج إلی توضیح، لأننا جمیعاً نعلم بأن الإِنسان یعیش ضِمنَ المجتمع، ولا یکون أن تکونَ له حیاةُ هنیئةُ و مستقِرَّةُ مِن دون وجودِ قانونٍ کامِلٍ، بل یجبُ أنْ یکون هناکَ قانونُ یکفلُ حقوقَ الأفراد، و یمنع مِنَ التجاوز و العدوان، و یضمن إستقرارَ النظام، و سیادة الأمن.
و هکذا الحیاة المعنویة و الرُوحیة الإِنسانیة هی الاُخری بحاجة إلی برنامج و قانون ... إنّه بحاجة إلی برنامج لتربیة نفسه، و تهذیبها، و لضمان سعادته الاُخرویة.
ولهذا لا مجال للشکّ فی أنَّ الإِنسان یحتاج لضمان سعادته الدنیویة و الاُخرویة إلی برنامجٍ کاملٍ شاملٍ متناسقٍ.
ولکنّ الإجابة علی السُؤال الثانی بحاجةٍ إلی توضیحٍ أکثر .. وهنا تنطرُح مسألةُ النُبوَّّة.
وفی موضوع النُبوّة هناک بحثان:
الأول: البحث فی المسائل العامّة التی ترتبط بأصلِ النبوّة، و تسمّی بالنبوّة العامّة.
الثانی: البحث فی المسائل الخاصّة التی ترتبط برسولِ الإسلام(ص) و تسمّی بالنبوّة الخاصة.
وها نحن نبدأ بمسائل النبوّة العامة.